فصل: تفسير الآيات رقم (3- 5)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 5‏]‏

‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏3‏)‏ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏4‏)‏ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏ الآية تعديد لما يتلى على الأمة مما استثني من ‏{‏بهيمة الأنعام‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏ و‏{‏الميتة‏}‏ كل حيوان له نفس سائلة خرجت نفسه من جسده على غير طريق الذكاة المشروع سوى الحوت والجراد على أن الجراد قد رأى كثير من العلماء أنه لا بد من فعل فيها يجري مجرى الذكاة، وقرأ جمهور الناس «الميْتة» بسكون الياء، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «الميّتة» بالتشديد في الياء قال الزجاج‏:‏ هما بمعنى واحد، وقال قوم من أهل اللسان‏:‏ الميْت بسكون الياء ما قد مات بعد والميّت يقال لما قد مات ولما لم يمت وهو حي بعد ولا يقال له ميت بالتخفيف ورد الزجاج هذا القول واستشهد على رده بقول الشاعر‏:‏

ليس من مات فاستراح بميت *** إنما الميت ميت الأحياء

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والبيت يحتمل أن يتأول شاهداً عليه لا له وقد تأول قوم استراح في هذا البيت بمعنى اكتسب رائحة إذ قائله جاهلي لا يرى في الموت راحة وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والدم‏}‏ معناه السفوح لأنه بهذا تقيد الدم في غير هذه الآية فيرد المطلق إلى المقيد وأجمعت الأمة على تحليل الدم والعلهز دم ووبر يأكلونه في الأزمات ‏{‏ولحم الخنزير‏}‏ مقتض لشحمه بإجماع، واختلف في استعمال شعره وجلده بعد الدباغ فأجيز ومنع وكل شيء من الخنزير حرام بإجماع جلداً كان أو عظماً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أهلّ لغير الله به‏}‏ يعني ما ذبح لغير الله تعالى وقصد به صنم أو بشر من الناس كما كانت العرب تفعل وكذلك النصارة وعادة الذابح أن يسمي مقصوده ويصيح به فذلك إهلاله ومنه استهلال المولود إذ صاح عند الولادة، ومنه إهلال الهلال أي الصياح بأمره عند رؤيته ومن الإهلال قول ابن أحمر‏:‏

يهل بالفرقد ركبانها *** كما يهل الراكب المعتمر

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمنخنقة‏}‏ معناه التي تموت خنقاً وهو حبس النفس سواء فعل بها ذلك آدمي أو اتفق لها ذلك في حجر أو شجرة أو بحبل أو نحوه وهذا إجماع، وقد ذكر قتادة أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة وغيرها فإذا ماتت أكلوها وذكر نحوه ابن عباس ‏{‏والموقوذة‏}‏ التي ترمى أو تضرب بعصا أو بحجر أو نحوه وكأنها التي تحذف به وقال الفرزدق‏:‏

شغارة تغذ الفصيل برجلها *** فطارة لقوادم الأبكار

وقال ابن عباس ‏{‏الموقوذة‏}‏ التي تضرب بالخشب حتى يوقذها فتموت وقال قتادة‏:‏ كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك ويأكلونها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومن اللفظة قول معاوية، وأما ابن عمر فرجل قد وقذه الورع وكفى أمره ونزوته، وقال الضحاك‏:‏ كانوا يضربون «الأنعام» بالخشب لآلهتهم حتى يقتلوها فيأكلونها وقال أبو عبد الله الصنابحي ليس ‏{‏الموقوذة‏}‏ إلا في مالك وليس في الصيد وقيذ‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وعند مالك وغيره من الفقهاء في الصيد ما حكمه حكم الوقيذ وهو نص في قول النبي صلى الله عليه وسلم، في المعراض «وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ» ‏{‏والمتردية‏}‏ هي التي تتردى من العلو إلى السفل فتموت كان ذلك من جبل أو في بئر ونحوه، هي متفعلة من الردى وهو الهلاك وكانت الجاهلية تأكل المتردي ولم تكن العرب تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحو ذلك دون سبب يعرف فأما هذه الأسباب فكانت عندها كالذكاة، فحصر الشرع الذكاة في صفة مخصوصة وبقيت هذه كلها ميتة، ‏{‏والنطيحة‏}‏ فعيلة بمعنى مفعولة وهي الشاة تنطحها أخرى أو غير ذلك فتموت وتأول قوم ‏{‏النطيحة‏}‏ بمعنى الناطحة لأن الشاتين قد تتناطحان فتموتان، وقال قوم‏:‏ لو ذكر الشاة لقيل‏:‏ والشاة النطيح كما يقال كف خضيب ولحية دهين، فلما لم تذكر ألحقت الهاء لئلا يشكل الأمر أمذكراً يريد أم مؤنثاً، قال ابن عباس والسدي وقتادة والضحاك‏:‏ النطيحة الشاة تناطح الشاة فتموتان أو الشاة تنطحها البقر والغنم‏.‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وكل ما مات ضغطاً فهو نطيح، وقرأ أبو ميسرة «والمنطوحة» وقوله‏:‏ ‏{‏وما أكل السبع‏}‏ يريد كل ما افترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان كالأسد والنمر والثعلب والذئب والضبع ونحوه هذه كلها سباع‏.‏ ومن العرب من يوقف اسم السبع على الأسد، وكان العرب إذا أخذ السبع شاة فقتلها ثم خلصت منه أكلوها وكذلك إن أكل بعضها، قاله قتادة وغيره‏.‏

وقرأ الحسن والفياض وطلحة بن سليطان وأبو حيوة وما «أكل السبْع» بسكون الباء وهي لغة أهل نجد وقرأ بذلك عاصم في رواية أبي بكر عنه‏.‏ وقرأ عبد الله بن مسعود «وأكيلة السبع» وقرأ عبد الله بن عباس «وأكيل السبع»، واختلف العلماء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا ما ذكيتم‏}‏ فقال ابن عباس والحسن بن أبي الحسن وعلي بن أبي طالب وقتادة وإبراهيم النخعي وطاوس وعبيد بن عمير والضحاك وابن زيد وجمهور العلماء الاسثناء هو من هذه المذكورات فما أدرك منها يطرق بعين أو يمصع برجل أو يحرك ذنباً وبالجملة ما يتحقق أنه لم تفض نفسه بل له حياة فإنه يذكى على سنة الذكاة ويؤكل، وما فاضت نفسه فهو في حكم الميتة بالوجع ونحوه على ما كانت الجاهلية تعتقده، وقال مالك رحمه الله مرة بهذا القول، وقال أيضاً وهو المشهور عنه وعن أصحابه من أهل المدينة أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا ما ذكيتم‏}‏ معناه من هذه المذكورات في وقت تصح فيه ذكاتها وهو ما لم تنفذ مقاتلها ويتحقق أنها لا تعيش ومتى صارت في هذا الحد فهي في حكم الميتة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فقال بعض المفسرين إن الاستثناء في قول الجمهور متصل وفي قول مالك منقطع لأن المعنى عنده «لكن ما ذكيتم» مما تجوز تذكيته فكلوه حتى قال بعضهم إن المعنى ‏{‏إلا ماذكيتم‏}‏ من غير هذه فكلوه، وفي هذا عندي نظر، بل الاستثناء على قول مالك متصل لكنه يخالف في الحال التي تصح ذكاة هذه المذكورات، وقال الطبري‏:‏ إن الاستثناء عند مالك من التحريم لا من المحرمات‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذه العبارة تجوز كثير وحينئذ يلتئم المعنى، والذكاة في كلام العرب الذبح، قاله ثعلب قال ابن سيده‏:‏ والعرب تقول ذكاة الجنين ذكاة أمه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا إنما هو حديث، وذكى الحيوان ذبحه، ومنه قوله الشاعر‏:‏

يذكيها الأسل ***

ومما احتج به المالكيون لقول مالك، إن ما تيقن أنه يموت من هذه الحوادث فهو في حكم الميتة أنه لو لم تحرم هذه التي قد تيقن موتها إلا بأن تموت لكان ذكر الميتة أولاً يغني عنها فمن حجة المخالف أن قال إنما ذكرت بسبب أن العرب كانت تعتقد أن هذه الحوادث كالذكاة فلو لم يذكر لها غير الميتة لظنت أنها ميته الوجع حسب ما كانت هي عليه‏.‏

‏{‏وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وما ذبح‏}‏ عطف على المحرمات المذكورات، و‏{‏النصب‏}‏ جمع واحدة نصاب، وقيل هو اسم مفرد وجمعه أنصاب وهي حجارة تنصب كل منها حول الكعبة ثلاثمائة وستون، وكان أهل الجاهلية يعظمونها ويذبحون عليها لآلهتهم ولها أيضاً وتلطخ بالدماء وتوضع عليه اللحوم قطعاً قطعاً ليأكل الناس، قال مجاهد وقتادة وغيرهما‏:‏ ‏{‏النصب‏}‏ حجارة كان أهل الجاهلية يذبحون عليها، وقال ابن عباس‏:‏ ويهلون عليها، قال ابن جريج‏:‏ ‏{‏النصب‏}‏ ليس بأصنام الصنم يصور وينقش، وهذه حجارة تنصب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقد كانت للعرب في بلادها أنصاب حجارة يعبدونها ويحكون فيها أنصاب مكة، ومنها الحجر المسمى بسعد وغيره، قال ابن جريج‏:‏ كانت العرب تذبح بمكة وينضحون بالدم ما أقبل من البيت ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة‏.‏‏.‏ فلما جاء الإسلام قال المسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكره ذلك فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏لن ينال الله لحومها ولا دماؤها‏}‏

‏[‏الحج‏:‏ 37‏]‏ ونزلت ‏{‏وما ذبح على النصب‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ المعنى والنية فيها تعظيم النصب، قال مجاهد‏.‏ وكان أهل مكة يبدلون ما شاؤوا من تلك الحجارة إذا وجدوا أعجب إليهم منها، قال ابن زيد‏:‏ ‏{‏ما ذبح على النصب‏}‏ وما أهل به لغير الله شيء واحد‏.‏

قال رضي الله عنه‏:‏ ‏{‏ما ذبح على النصب‏}‏ جزء مما أهل به لغير الله لكن خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وشرف الموضع وتعظيم النفوس له‏.‏ وقد يقال للصنم أيضاً نصب ونصب لأنه ينصب وروي أن الحسن بن أبي الحسن قرأ «وما ذبح على النَّصْب» بفتح النون وسكون الصاد، وقال على الصنم، وقرأ طلحة ابن مصرف «على النُّصْب» بضم النون وسكون الصاد، وقرأ عيسى بن عمر «على النَّصَب» بفتح النون والصاد وروي عنه أنه قرأ بضم النون والصاد كقراءة الجمهور، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تستقسموا بالأزلام‏}‏ حرم به تعالى طلب القسم وهو النصيب أو القسم بفتح القاف وهو المصدر ‏{‏بالأزلام‏}‏ وهي سهام واحد زلم بضم الزاي وبفتحها وأزلام العرب ثلاثة أنواع، منها الثلاثة التي كان يتخذها كل إنسان لنفسه على أحدها افعل والآخر لا تفعل والثالث مهمل لا شيء عليه فيجعلها في خريطة معه، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده وهي متشابهة فأخرج أحدها وائتمر وانتهى بحسب ما يخرج له، وإن خرج القدح الذي لا شيء فيه أعاد الضرب، وهذه هي التي ضرب بها سراقة بن مالك بن جعشم حين اتبع النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وقت الهجرة، والنوع الثاني سبعة قداح كانت عند هبل في جوف الكعبة فيها أحكام العرب وما يدور بين الناس من النوازل، في أحدها العقل في أمور الديات، وفي آخر منكم وفي آخر من غيركم وفي آخر ملصق وفي سائرها أحكام المياه وغير ذلك وهي التي ضرب بها على بني عبد المطلب إذ كان نذر هو نحر أحدكم إذا أكملوا عشرة وهو الحديث الطويل الذي في سيرة ابن إسحاق، وهذه السبعة أيضاً متخذة عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم على نحو ما كانت في الكعبة عند هبل‏.‏ والنوع الثالث هو قداح الميسر وهي عشرة سبعة منها فيها خطوط لها بعددها حظوظ، وثلاثة أغفال وكانوا يضربون بها مقامرة ففيها لهو للبطالين ولعب، وكان عقلاؤهم يقصدون بها إطعام المساكين والمعدم في زمن الشتاء وكلب البرد وتعذر التحرف، وكان من العرب من يستقسم بها لنفسه طلب الكسب والمغامرة وقد شرحت أمرها بأوعب من هذا في سورة البقرة في تفسير الميسر، فالاستقسام بهذا كله هو طلب القسم والنصيب وهو من أكل المال بالباطل وهو حرام، وكل مقامرة بحمام أو بنرد أو بشطرينج أو بغير ذلك من هذه الألعاب فهو استقسام بما هو في معنى «الأزلام» حرام كله وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلكم فسق‏}‏ إشارة إلى الاستقسام ‏{‏بالأزلام‏}‏ والفسق الخروج من مكان محتوٍ جامع يقال فسقت الرطبة خرجت من قشرها والفأرة من جحرها واستعملت اللفظة في الشرع فيمن يخرج من احتواء الأمر الشرعي وجمعه وإحاطته‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اليوم يئس الذين كفروا من دينكم‏}‏ معناه عند ابن عباس من أن ترجعوا إلى دينهم وقاله السدي وعطاء، وظاهر أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وظهور دينه يقتضي أن يأس الكفار عن الرجوع إلى دينهم قد كان وقع منذ زمان، وإنما هذا اليأس عندي من اضمحلال أمر الإسلام وفساد جمعه لأن هذا أمر كان يترجاه من بقي من الكفار ألا ترى إلى قول أخي صفوان بن أمية في يوم هوازن حين انكشف المسلمون وظنها هزيمة ألا بطل السحر اليوم، إلى غير هذا من الأمثلة، وهذه الآية نزلت في إثر حجة الوداع وقيل في يوم عرفة يوم الجمعة، قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يكن المشركون حينئذ إلا في حيز القلة ولم يحضر منهم الموسم بشر، وفي ذلك اليوم أمحى أمر الشرك من مشاعر الحج، ويحتمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اليوم‏}‏ أن يكون إشارة إلى اليوم بعينه لا سيما في قول الجمهور عمر بن الخطاب وغيره، إنها نزلت في عشية عرفة يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الموقف على ناقته وليس في الموسم مشرك‏.‏ ويحتمل أن يكون إشارة إلى الزمن والوقت أي في هذا الأوان ‏{‏يئس‏}‏ الكفار من دينكم وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين كفروا‏}‏ يعم مشركي العرب وغيرهم من الروم والفرس وغير ذلك وهذا يقوي أن اليأس من انحلال أمر الإسلام وذهاب شوكته ويقوي أن الإشارة باليوم إنما هي إلى الأوان الذي فاتحته يوم عرفة ولا مشرك بالموسم ويعضد هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تخشوهم واخشون‏}‏ فإنما نهى المؤمنين عن خشية جميع أنواع الكفار وأمر بخشيته تعالى التي هي رأس كل عبادة كما قال صلى الله عليه وسلم ومفتاح كل خير، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ «ييس» بغير همزة وهي قراءة أبي جعفر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏ تحتمل الإشارة ب ‏{‏اليوم‏}‏ ما قد ذكرناه، وهذا الإكمال عند الجمهور هو الإظهار واستيعاب عظم الفرائض والتحليل والتحريم‏.‏ قالوا، وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير ونزلت آية الربا ونزلت آية الكلالة إلى غيره ذلك، وإنما كمل عظم الدين وأمر الحج أن حجوا وليس معهم مشرك‏.‏ وقال ابن عباس والسدي هو إكمال تام ولم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك اليوم تحليل ولا تحريم ولا فرض، وحكى الطبري عن بعض من قال هذا القول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة‏.‏

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ والظاهر أنه عاش عليه السلام أكثر بأيام يسيرة‏.‏ وروي أن هذه الآية لما نزلت في يوم الحج الأكبر وقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبكيك‏؟‏ فقال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص فقال له النبي صلى الله عليه وسلم صدقت، وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له يهودي‏:‏ آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً فقال له عمر آية آية هي فقا له‏:‏ ‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏ فقال له عمر قد علمنا ذلك اليوم نزلت على رسول الله وهو واقف بعرفة يوم الجمعة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ففي ذلك اليوم عيدان لأهل الإسلام إلى يوم القيامة، وقال داود بن أبي هند للشعبي إن اليهود تقول كيف لم تحفظ العرب هذا اليوم الذي كمل الله لها دينها فيه فقال الشعبي أو ما حفظته قال داود‏:‏ فقلت أي يوم هو قال يوم عرفة، وقال عيسى بن جارية الأنصاري كنا جلوساً في الديوان فقال لنا نصراني مثل ما قال اليهودي لعمر بن الخطاب فما أجابه منا أحد فلقيت محمد بن كعب القرظي فأخبرته فقال هلا أجبتموه، قال عمر بن الخطاب أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف على الجبل يوم عرفة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وذكر عكرمة عن عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ نزلت سورة المائدة بالمدينة يوم الاثنين، وقال الربيع بن أنس نزلت سورة المائدة في مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجة الوداع، وهذا كله يقتضي أن السورة مدنية بعد الهجرة وإتمام النعمة هو في ظهور الإسلام ونور العقائد وإكمال الدين وسعة الأحوال وغير ذلك مما انتظمته هذه الملة الحنيفية إلى دخول الجنة والخلود في رحمة الله هذه كلها نعم الله المتممة قبلنا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورضيت لكم الإسلام ديناً‏}‏ يحتمل الرضا في هذا الموضع أن يكون بمعنى الإرادة ويحتمل أن يكون صفة فعل عبارة عن إظهار الله إياه لأن الرضى من الصفات المترددة بين صفات الذات وصفات الأفعال والله تعالى قد أراد لنا الإسلام ورضيه لنا وثم أشياء يريد الله تعالى وقوعها ولا يرضاها، والإسلام في هذه الآية هو الذي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الدين عند الله الإسلام‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏ وهو الذي تفسر في سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وهو الإيمان والأعمال والشعب‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن اضطر في مخمصة‏}‏ يعني من دعته ضرورة إلى أكل الميتة وسائر تلك المحرمات، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تحل الميتة‏؟‏ فقال إذا لم يصطحبوا ولم يغتبقوا ولم تحتفئوا بها بقلاً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فهذه مثال في حال عدم المأكول حتى يؤدي ذلك إلى ذهاب القوى والحياة وقرأ ابن محيصن «فمن اطر» بإدغام الضاد والطاء وليس بالقياس ولكن العرب استعملته في ألفاظ قليلة استعمالاً كثيراً وقد تقدم القول في أحكام الاضطرار في نظير هذه الآية في سورة البقرة و«المخمصة» المجاعة التي تخمص فيها البطون أي تضمر والخمص ضمور البطن فالخلقة منه حسنة في النساء ومنه يقال خمصانة وبطن خميص ومنه أخمص القدم، ويستعمل ذلك كثيراً في الجوع والغرث، ومنه قول الأعشى‏:‏

تبيتون في المشتى ملاء بطونكم *** وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا

أي منطويات على الجوع قد أضمر بطونهن، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏غير متجانف لإثم‏}‏ وهو بمعنى ‏{‏غير باغ ولا عاد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 173‏]‏ وقد تقدم تفسيره وفقهه في سورة البقرة والجنف الميل، وقرأ أبو عبد الرحمن ويحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي «غير متجنف»، دون ألف وهي أبلغ في المعنى من ‏{‏متجانف‏}‏، لأن شد العين يقتضي مبالغة وتوغلاً في المعنى وثبوتاً لحكمه، وتفاعل إنما هي محاكاة الشيء والتقرب منه‏.‏ ألا ترى إذا قلت تمايل الغصن فإن ذلك يقتضي تأوداً، ومقاربة ميل، وإذا قلت تميل فقد ثبت حكم الميل، وكذلك تصاون وتصون وتغافل وتغفل وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن الله غفور رحيم‏}‏ نائب مناب فلا حرج عليه إلى ما يتضمن من زيادة الوعد وترجية النفوس وفي الكلام محذوف يدل عليه المذكور تقديره فأكل من هذه المحرمات المذكورات‏.‏

وسبب نزول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك ماذا أحل لهم‏}‏ أن جبريل جاء إلى سول الله صلى الله عليه وسلم فوجد في البيت كلباً فلم يدخل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ادخل فقال أنا لا أدخل بيتاً فيه كلب فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب فقتلت حتى بلغت العوالي فجاء عاصم بن عدي وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة فقالوا يا رسول الله، ماذا يحل لنا من هذه الكلاب‏؟‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وروى هذا السبب أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم وهو كان المتولي لقتل الكلاب، وحكاه أيضاً عكرمة ومحمد بن كعب القرظي موقوفاً عليهما وظاهر الآية أن سائلاً سأل عما أحل للنا س من المطاعم لأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أحل لكم الطيبات‏}‏ ليس الجواب على ما يحل لنا من اتخاذ الكلاب اللهم إلا أن يكون هذا من إجابة السائل بأكثر مما سأل عنه وهذا موجود كثيراً من النبي صلى الله عليه وسلم كجوابه في لباس المحرم وغير ذلك وهو صلى الله عليه وسلم مبين الشرع فإنما من اتخاذ الكلاب اللهم إلا أن يكون هذا من إجابة السائل بأكثر مما سأل عنه وهذا موجود كثيراً من النبي صلى الله عليه وسلم كجوابه في لباس المحرم وغير ذلك وهو صلى الله عليه وسلم مبين الشرع فإنما يجاوب مادّاً أطناب التعليم لأمته، و‏{‏الطيبات‏}‏ الحلال هذا هو المعنى عند مالك وغيره ولا يراغي مستلذاً كان أم لا، وقال الشافعي‏:‏ ‏{‏الطيبات‏}‏ الحلال المستلذ وكل مستقذر كالوزغ والخنافس وغيرها فهي من الخبائث حرام‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما علمتم من الجوارح‏}‏ تقديره وصيد ما علمتم أو فاتخاذ ما علمتم وأعلى مراتب التعليم أن يشلى الحيوان فينشلي ويدعى فيجيب ويزجر بعد ظفره بالصيد فينزجر وأن يكون لا يأكل من صيده فإذا كان كلب بهذه الصفات ولم يكن أسود بهيماً فأجمعت الأمة على صحة الصيد به بشرط أن يكون تعليم مسلم ويصيد به مسلم، هنا انعقد الإجماع فإدا انخرم شيء مما ذكرنا دخل الخلاف، فإن كان الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبهه وكالبازي والصقر ونحوهما من الطير فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد تعليم فهو جارح أي كاسب يقال‏:‏ جرح فلان واجترح إذا كسب ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويعلم ما جرحتم بالنهار‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 60‏]‏ أي كسبتم من حسنة وسيئة وكان ابن عمر يقول إنما يصاد بالكلاب فأما ما صيد به من البراة وغيرها من الطير فما أدركت ذكاته فذكه فهو حلال لك وإلا فلا تطعمه هكذا حكى ابن المنذر قال‏:‏ وسئل أبو جعفر عن البازي والصقر أيحل صيده قال‏:‏ لا إلا أن تدرك ذكاته قال واستثنى قوم البزاة فجوزوا صيدها لحديث عدي بن حاتم قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال إذا أمسك عليك فكل، وقال الضحاك والسدي‏:‏ ‏{‏وما علمتم من الجوارح مكلبين‏}‏ هي الكلاب خاصة فإن كان الكلب أسود بهيماً فكره صيده الحسن بن أبي الحسن وقتادة وإبراهيم النخعي‏.‏ وقال أحمد بن حنبل ما أعرف أحداً يرخص فيه إذا كان بهيماً وبه قال ابن راهويه، فأما عوام أهل العلم بالمدينة والكوفة فيرون جواز صيد كل كلب معلم‏.‏

وأما أكل الكلب من الصيد فقال ابن عباس وأبو هريرة والشعبي وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وقتادة وعكرمة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور والنعمان وأصحابه، لا يؤكل ما بقي لأنه إنما أمسك على نفسه ولم يمسك على ربه ويعضد هذا القول قول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم في الكلب المعلم وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه، وتأول هؤلاء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مما أمسكن عليكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 4‏]‏ على عموم الإمساك فمتى حصل إمساك ولو في بضعة حل أكلها وروي عن النخعي وأصحاب الرأي والثوري وحماد بن أبي سليمان أنهم رخصوا فيما أكل البازي منه خاصة في البازي‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ كأنه لا يمكن فيه أكثر من ذلك لأن حد تعليمه أن يدعى فيجيب وأن يشلى فينشلي، وإذا كان الجارح يشرب من دم الصيد فجمهور الناس على أن ذلك الصيد يؤكل، وقال عطاء‏:‏ ليس شرب الدم بأكل‏.‏ وكره أكل ذلك الصيد الشعبي وسفيان الثوري‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وليس في الحيوان شيء يقبل التعليم التام إلا الكلب شاذاً وأكثرها يأكل من الصيد ولذلك لم ير مالك ذلك من شروط التعليم‏.‏ وأما الطير فقال ربيعة‏:‏ ما أجاب منها إذا دعي فهو المعلم الضاري‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ لأن أكثر الحيوان بطبعه ينشلي، وقال أصحاب أبي حنيفة‏:‏ إذا صار الكلب وأمسك ثلاث مرات ولا ء فقد حصل منه التعليم، قال ابن المنذر‏:‏ وكان النعمان لا يحد في ذلك عدداً، وقال غيرهم‏:‏ إذ فعل ذلك مرة واحدة فقد حصل معلماً وإذا كان الكلب تعليم يهودي أو نصراني فكره الصيد به الحسن البصري، فأما كلب المجوسي وبازه وصقره فكره الصيد بها جابر بن عبد الله والحسن وعطاء ومجاهد وإبراهيم النخعي والثوري وإسحاق بن راهويه، ومالك رحمه الله والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم على إباحة الصيد بكلابهم إذا كان الصائد مسلماً قالوا‏:‏ وذلك مثل شفرته، وأما إن كان الصائد من أهل الكتاب فجمهور الأمة على جواز صيده غير مالك رحمه الله فإنه لم يجوز صيد اليهودي والنصراني وفرق بين ذلك وبين ذبيحته وتلا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏تناله أيديكم ورماحكم‏}‏ قال فلم يذكر الله بهذا اليهود ولا النصارى، وقال ابن وهب وأشهب‏:‏ صيد اليهودي والنصراني حلال كذبيحته، وفي كتاب محمد لا يجوز صيد الصابئ ولا ذبيحته وهم قوم بين اليهود والنصارى لا دين لهم وأما إن كان الصائد مجوسياً فمنع من أكل صيده مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وعطاء وابن جبير والنخعي والليث بن سعد وجمهور الناس، وقال أبو ثور فيها قولين‏:‏ أحدهما كقول هؤلاء، والآخر أن المجوس أهل كتاب وأن صيدهم جائز، وقرأ جمهور الناس «وما عَلمتم» بفتح العين واللام وقرأ ابن عباس ومحمد بن الحنفية «عُلِّمتم» بضم العين وكسر اللام أي أمر الجوارح والصيد بها، و‏{‏الجوراح‏}‏ الكواسر على ما تقدم، وحكى ابن المنذر عن قوم أنهم قالوا ‏{‏الجوارح‏}‏ مأخوذ من الجارح أي الحيوان الذي له ناب وظفر أو مخلب يجرح به صيده‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قول ضعيف أهل اللغة على خلافه وقرأ جمهور الناس «مكَلّبين» بفتح الكاف وشد اللام والمكلب معلم الكلاب ومضريها ويقال لمن يعلم غير كلب مكلب لأنه يرد ذلك الحيوان كالكلب، وقرأ الحسن وأبو زيد «مكْلبين» بسكون الكاف وتخفيف اللام ومعناه أصحاب كلاب يقال‏:‏ أمشى الرجل كثرت ماشيته وأكلب كثرت كلابه، وقال بعض المفسرين‏:‏ المكلب بفتح الكاف وشد اللام صاحب الكلاب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وليس هذا بمحرر‏.‏

قوله عز وجل‏:‏

‏{‏فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏

أي يعلمونهن من الحيلة في الاصطياد والتأتي لتحصيل الحيوان وهذا جزء مما علمه الله الإنسان و«من» للتبعيض، ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية وأنث الضمير في ‏{‏تعلمونهن‏}‏ مراعاة للفظ ‏{‏الجوارح‏}‏ إذ هو جمع جارحة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكلوا مما أمسكن عليكم‏}‏ يحتمل أن يريد مما أمسكن فلم يأكلن منه شيئاً‏.‏ ويحتمل أن يريد مما «أمسكن» وإن أكلن بعض الصيد وبحسب هذا الاحتمال اختلف العلماء في جواز أكل الصيد إذا أكل منه الجارح وقد تقدم ذلك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروا اسم الله عليه‏}‏ أمر بالتسمية عند الإرسال على الصيد وفقه الصيد والذبح في معنى التسمية واحد فقال بعض العلماء هذا الأمر على الوجوب ومتى ترك المرسل أو الذابح التسمية عمداً أو نسياناً لم تؤكل عامداً لا يدري قدر ذلك لكنه غير متهاون نسياناً الشعبي وابن سيرين ونافع وأبو ثور، ورأى بعض العلماء هذا الأمر بالتسمية على الندب وإلى ذلك ينحو أشهب في قوله إن ترك التسمية مستخفاً لم تؤكل وإن تركها عامداً لا يدري قدر ذلك لكنه غير متهاون بأمر الشريعة فإنها تؤكل ومذهب مالك وجمهور أهل العلم‏:‏ أن التسمية واجبة مع الذكر ساقطة مع النسيان فمن تركها عامداً فقد أفسد الذبيحة والصيد ومن تركها ناسياً سمى عند الأكل وكانت الذبيحة جائزة، واستحب أكثر أهل العلم أن لا يذكر في التسمية غير الله تعالى وأن لفظها بسم الله والله كبر، وقال قوم‏:‏ إن صلى مع ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فجائز، ثم أمر تعالى بالتقوى على الجملة والإشارة الغريبة هي إلى ما تضمنته هذه الآيات من الأوامر وسرعة الحساب هي من أنه تبارك وتعالى قد أحاط بكل شيء علماً فلا يحتاج إلى محاولة عد ويحاسب جميع الخلائق دفعة واحدة، وتحتمل الآية أن تكون وعيداً بيوم القيامة كأنه قال إن حساب الله لكم سريع إتيانه إذ يوم القيامة قريب، ويحتمل أن يريد ب ‏{‏الحساب‏}‏ المجازاة فكأنه توعد في الدنيا بمجازاة سريعة قريبة إن لم يتق الله‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اليوم أحل لكم الطيبات‏}‏ إشارة إلى الزمن والأوان، والخطاب للمؤمنين، وتقدم القول في ‏{‏الطيبات‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم‏}‏ ابتداء وخبر، و‏{‏حل‏}‏ معناه حلال، والطعام في هذه الآية الذبائح كذا قال أهل التفسير، وذلك أن الطعام الذي لا محاولة فيه كالبر والفاكهة ونحوه لا يضر فيه ويحرم عينه تملك أحد، والطعام الذي تقع فيه محاولة على ضربين فمنه ما محاولته صنعه لا تعلق للدين بها كخبز الدقيق وتعصير الزيت ونحوه فهذا إن جنب من الذمي فعلى جهة التقزز، والضرب الثاني هي التزكية التي هي محتاجة إلى الدين والنية فلما كان القياس ألا تجوز ذبائحهم كما تقول‏:‏ إنهم لا صلاة لهم ولا صوم ولا عبادة مقبولة رخص الله تعالى في ذبائحهم على هذه الأمة وأخرجها بالنص عن القياس، ثم إن العلماء اختلفوا في لفظ طعام فقال الجمهور‏:‏ وهي الذبيحة كلها وتذكية الذمي عاملة لنا في كل الذبيحة ما حل له منها وما حرم عليه لأنه مذك‏.‏ وقالت جماعة من أهل العلم إنما أحل لنا طعامهم من الذبيحة أي الحلال لهم لأن ما لا يحل لهم لا تعمل فيه تذكيتهم فمنعت هذه الطائفة الطريف والشحوم المحضة من ذبائح أهل الكتاب، وهذا الخلاف موجود في مذهب مالك رحمه الله، واختلف العلماء في لفظة ‏{‏أوتوا‏}‏ فقالت فرقة إنما أحلت لنا ذبائح بني إسرائيل الصرحاء الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل، فمنعت هذه الفرقة ذبائح نصارى بني تغلب من العرب وذبائح كل دخيل في هذين الدينين وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه ينهى عن ذبائح نصارى بني تغلب ويقول لأنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فهذا ليس بنهي عن ذبائح النصارى المحققين منهم، وقال جمهور الأمة ابن عباس والحسن وعكرمة وابن المسيب والشعبي وعطاء وابن شهاب والحكم وحماد وقتادة ومالك رحمه الله وغيرهم‏:‏ إن ذبيحة كل نصراني حلال سواء كان من بني تغلب أو غيرهم، وكذلك اليهود وتأولوا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يتولهم منكم فإنه منهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 51‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وطعامكم حل لهم‏}‏ أي ذبائحكم، فهذه رخصة للمسلمين لا لأهل الكتاب لما كان الأمر يقتضي أن شيئاً قد تشرعنا فيه بالتذكية ينبغي لنا أن نحميه منهم ورخص الله تعالى في ذلك رفعاً للمشقة بحسب التجاوز، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمحصنات‏}‏ عطف على الطعام المحلل، والإحصان في كلام العرب وفي تصريف الشرع مأخوذ من المنعة ومنه الحصن، وهو مترتب بأربعة أشياء‏:‏ الإسلام والعفة والنكاح والحرية، فيمتنع في هذا الموضع أن يكون الإسلام لأنه قد نص أنهن من أهل الكتاب ويمتنع أن يكون النكاح لأن ذات الزوج لا تحل، ولم يبق إلا الحرية والعفة فاللفظة تحتملها، واختلف أهل العلم بحسب هذا الاحتمال فقال مالك رحمه الله ومجاهد وعمر بن الخطاب وجماعة من أهل العلم «المحصنات» في هذه الآية الحرائر فمنعوا نكاح الأمة الكتابية، وقالت جماعة من أهل العلم‏:‏ «المحصنات» في هذه الآية العفائف، منهم مجاهد أيضاً والشعبي وغيرهم فجوزوا نكاح الأمة الكتابية وبه قال سفيان والسدي، وقال الشعبي‏:‏ إحصان الذمية ألا تزني وأن تغتسل من الجنابة، وقال أبو ميسرة‏:‏ مملوكات أهل الكتاب بمنزلة حرائرهن العفائف منهن حلال نكاحهن‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومنع بعض العلماء زواج غير العفيفة بهذه الآية، وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ إذا اطلع الرجل من امرأته على فاحشة فليفارقها‏.‏ وفرق ابن عباس بين نساء أهل الحرب ونساء أهل الذمة فقال‏:‏ من أهل الكتاب من يحل لنا وهم كل من أعطى الجزية، ومنهم من لا يحل لنا وهم أهل الحرب، وكره مالك رحمه الله نكاح نساء أهل الحرب مخافة ضياع الولد أو تغير دينه، والأجور في هذه الآية المهور، وانتزع أهل العلم لفظة ‏{‏آتيتموهن‏}‏ أنه لا ينبغي أن يدخل زوج بزوجته إلا بعد أن يبذل من المهر ما يستحلها به، ومن جوز أن يدخل دون أن يبذل ذلك فرأى أنه بحكم الارتباط والالتزام في حكم الموتى، و‏{‏محصنين‏}‏ معناه متزوجين على السنة، والإحصان في هذا الموضع هو بالنكاح، والمسافح المزاني، والسفاح الزنى، والمسافحة هي المرأة التي لا ترد يد لامس وتزني مع كل أحد وهن أصحاب الرايات في الجاهلية، والمخادنة أن يكون الزانيان قد وقف كل واحد نفسه على صاحبه، وقد تقدم نظير هذه الآية وفسر بأوعب من هذا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يكفر بالإيمان‏}‏ يحتمل أن يكون المعنى على أن الكفر هو بنفس الإيمان، وفي هذا مجاز واستعارة لأن الإيمان لا يتصور كفر به إنما الكفر بالأمور التي حقها ان يقع الإيمان بها، وباق الآية بين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

لا يختلف أن هذه الآية هي التي قالت عائشة رضي الله عنها فيها نزلت آية التيمم وهي آية الوضوء، لكن من حيث كان الوضوء متقرراً عندهم مستعملاً فكأن الآية لم تزدهم فيه إلا تلاوة، وإنما أعطتهم الفائدة والرخصة في التيمم واستدل على حصول الوضوء بقول عائشة فأقام رسول الله بالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء وآية النساء إما نزلت معها أو بعدها بيسير، وكانت قصة التيمم في سفر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق، وفيها كان هبوب الريح فيما روي، وفيها كان قول عبد الله بن ابي ابن سلول ‏{‏لئن رجعنا إلى المدينة‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏ القصة بطولها، وفيها وقع حديث الإفك، ولما كانت محاولة الصلاة في الأغلب إنما هي بقيام جاءت العبارة ‏{‏إذا قمتم‏}‏، واختلف الناس في القرينة التي أريدت مع قوله ‏{‏إذا قمتم‏}‏ فقالت طائفة‏:‏ هذا لفظ عام في كل قيام سواء كان المرء على طهور أو محدثاً فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ وروي أن علي بن أبي طالب كان يفعل ذلك ويقرأ الآية، وروي نحوه عن عكرمة، وقال ابن سيرين‏:‏ كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة، وروي أن عمر بن الخطاب توضأ وضوءاً فيه تجوز ثم قال هذا وضوء من لم يحدث وقال عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق ذلك عليه فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلا من حدث‏.‏

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ فكان كثير من الصحابة منهم ابن عمر وغيره يتوضؤون لكل صلاة انتداباً إلى فضيلة وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ثم جمع بين صلاتين بوضوء واحد في حديث سويد بن النعمان وفي غير موطن إلى أن جمع يوم الفتح بين الصلوات الخمس بوضوء واحد إرادة البيان لأمته وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات،» وقال‏:‏ إنما رغبت في هذا، وقالت فرقة‏:‏ نزلت هذه الآية رخصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان لا يعمل عملاً إلا وهو على وضوء ولا يكلم أحداً ولا يرد سلاماً إلى غير ذلك فأعلمه الله بهذه الآية أن الوضوء إنما هو عند القيام إلى الصلاة فقط دون سائر الأعمال، قال ذلك علقمة بن الفغواء وهو من الصحابة، وكان دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وقال زيد بن أسلم والسدي‏:‏ معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة من المضاجع يعني النوم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والقصد بهذا التأويل أن تعم الأحداث بالذكر ولا سيما النوم الذي هو مختلف فيه هل هو في نفسه حدث، وفي الآية على هذا التأويل تقديم وتأخير تقديره ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة‏}‏ من النوم ‏{‏أوجاء أحد منكم من الغائط أولا مستم النساء‏}‏ يعني الملامسة الصغرى ‏{‏فاغتسلوا‏}‏ فتممت أحكام المحدث حدثاً أصغر ثم قال‏:‏ ‏{‏وإن كنتم جنباً فاطهروا‏}‏ فهذا حكم نوع آخر، ثم قال للنوعين جميعاً ‏{‏وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً‏}‏ وقال بهذا التأويل محمد بن مسلمة من أصحاب مالك رحمه الله وغيره، وقال جمهور أهل العلم معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة محدثين وليس في الآية على هذا تقديم ولا تأخير بل يترتب في الآية حكم واحد الماء إلى قوله‏:‏ ‏{‏فاطهروا‏}‏ ودخلت الملامسة الصغرى في قوله محدثين، ثم ذكر بعد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وإن كنتم مرضى‏}‏ إلى آخر الآية حكم عادم الماء من النوعين جميعاً وكانت الملامسة الصغرى في قوله محدثين، ثم ذكر بعد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وإن كنتم مرضى‏}‏ إلى آخر الآية حكم عادم الماء من النوعين جميعاً وكانت الملامسة هي الجماع ولا بد ليذكر الجنب العادم للماء كما ذكر الواجد، وهذا هو تأويل الشافعي وغيره وعليه تجيء أقوال الصحابة كسعد بن أبي وقاص وابن عباس وأبي موسى وغيرهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاغسلوا وجوهكم‏}‏ الغسل في اللغة إيجاد الماء في المغسول مع إمرار شيء عليه كاليد أو ما قام مقامها، وهو يتفاضل بحسب الانغمار في الماء أو التقليل منه، وغسل الوجه في الوضوء هو بنقل الماء إليه وإمرار اليد عليه، والوجه ما واجه الناظر وقابله، وحدّه في ذي اللحية فقيل‏:‏ حده من اللحية إلى ما قابل آخر الذقن، وقيل بل حده فيها آخر الشعر، واختلف العلماء في تخليل اللحية على قولين روي تخليلها عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس ذكره الطبري، واختلف في حده عرضاً فهو في المرأة والأمرد من الأذن إلى الأذن وفي ذي اللحية ثلاثة أقوال فقيل‏:‏ من الشعر إلى الشعر يعني شعر العارضين وقيل‏:‏ من الأذن إلى الأذن ويدخل البياض الذي بين العارض والأذن في الوجه وقيل‏:‏ يغسل ذلك بنفسه ليسا من الوجه ولا من الرأس، وقيل‏:‏ ما أقبل منهما من الوجه وما أدبر فهو من الرأس، واختلف في المضمضة والاستنشاق فجمهور الأمة يرونها سنة ولا يدخل هذان الباطنان عندهم في الوجه وقال مجاهد‏:‏ الاستنشاق شطر الوضوء، وقال حماد بن أبي سليمان وقتادة وعطاء والزهري وابن أبي ليلى وابن راهويه‏:‏ من ترك المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد الصلاة، وقال أحمد‏:‏ يعيد من ترك الاستنشاق ولا يعيد من ترك المضمضة والناس كلهم على أن داخل العينين لا يلزم غسله إلا ما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأيديكم إلى المرافق‏}‏ اليد في اللغة تقع على العضو الذي هو من المنكب إلى أطراف الأصابع ولذلك كان أبو هريرة يغسل جميعه في الوضوء أحياناً ليطيل الغرة، وحد الله تعالى موضع الغسل منه ‏{‏إلى المرافق‏}‏ يقال في واحدها مرفق ومرفق، وكسر الميم وفتح الفاء أشهر، واختلف العلماء هل تدخل المرافق في الغسل أم لا فقالت طائفة لا تدخل لأن إلى غاية تحول بين ما قبلها وما بعدها، وقالت طائفة تدخل المرافق في الغسل لأن ما بعد إلى إذا كان من نوع ما قبلها فهو داخل، ومثل أبو العباس المبرد في ذلك بأن تقول‏:‏ اشتريت الفدان إلى حاشيته أو بأن تقول اشتريت الفدان إلى الدار وبقوله‏:‏ ‏{‏أتموا الصيام إلى الليل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وتحرير العبارة في هذا المعنى أن يقال‏:‏ إذا كان ما بعد ‏{‏إلى‏}‏ ليس مما قبلها فالحد أول المذكور بعدها وإذا كان ما بعدها من جملة ما قبلها فالاحتياط يعطي أن الحد المذكور بعدها ولذلك يترجح دخول المرفقين في الغسل‏.‏ والروايتان محفوظتان عن مالك بن أنس رضي الله عنه، روى عنه أشهب أن المرفقين غير داخلين في الحد، وروي عنه أنهما داخلان‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وامسحوا برؤوسكم‏}‏ المسح أن يمر على الشيء بشيء مبلول بالماء وسنة مسح الرأس أن يؤخذ ماء باليدين ثم يرسل ثم يمسح الرأس بما تعلق باليدين، واختلف في مسح الرأس في مواضع منها هيئة المسح فقالت طائفة منها مالك والشافعي وجماعة من الصحابة والتابعين يبدأ بمقدم رأسه ثم يذهب بهما إلى قفاه ثم يردهما إلى مقدمة، وقالت فرقة يبدأ من مؤخر الرأس حتى يجيء إلى المقدم ثم يرد إلى المؤخر، وقالت فرقة‏:‏ يبدأ من وسط الرأس فيجيء بيديه نحو الوجه ثم يرد فيصيب باطن الشعر فإذا انتهى إلى وسط الرأس أمرّ يديه كذلك على ظاهر شعر مؤخر الرأس ثم يرد فيصيب باطنه ويقف عند وسط الرأس، وقالت فرقة يمسح رأسه من هنا وهنا على غير نظام ولا مبدأ محدود حتى يعمه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا كله قول بالعموم واختلف في رد اليدين على شعر الرأس هل هو فرض أم سنة بعد الإجماع على أن المسحة الأولى فرض بالقرآن فالجمهور على أنه سنة وقيل‏:‏ هو فرض ومن مواضع الخلاف في مسح الرأس قدر ما يمسح فقالت جماعة‏:‏ الواجب من مسح الرأس عمومه ثم اختلفوا في الهيئات على ما ذكرناه وقال محمد بن مسلمة أن مسح ثلثي الرأس وترك الثلث أجزأ وقال أبو الفرج المالكي‏:‏ وروي عن مالك أنه مسح الثلث أجزأ لأنه كثير في أمور من الشرع وقال أشهب إن مسح الناصية أجزأ‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وكل من أحفظ عنه إجزاء بعض الرأس فإنه يرى ذلك البعض من مقدم الرأس، وذلك أنه قد روي في ذلك أحاديث في بعضها ذكر الناصية وفي بعضها ذكر مقدم الرأس، إلا ما روي عن إبراهيم والشعبي قالا‏:‏ أي نواحي رأسك مسحت أجزأك، وكان سلمة بن الأكوع يمسح مقدم رأسه، وروي عن ابن عمر أنه مسح اليافوخ فقط، وقال أصحاب الرأي‏:‏ إن مسح بثلاث أصابع أجزأه وإن كان الممسوح أقل مما يمر عليه ثلاث أصابع لم يجزئ وقال قوم‏:‏ يجزئ من مسح الرأس أن يمسح مسحة بأصبع واحدة، وقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ إن لم تصب المرأة إلا شعرة واحدة أجزأها، وحكى الطبري وغيره عن سفيان الثوري أن الرجل إذا مسح شعرة واحدة أجزأه، ومن مواضع الخلاف في مسح الرأس ما العضو الذي يمسح به‏؟‏ فالإجماع على استحسان المسح باليدين جميعاً وعلى الإجزاء إن مسح بواحدة، واختلف فيمن مسح بأصبع واحدة حتى عم ما يرى أنه يجزئه من الرأس فالمشهور أن ذلك يجزئ وقيل لا يجزئ‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويترجح أنه لا يجزئ لأنه خروج عن سنة المسح وكأنه لعب إلا أن يكون ذلك عن ضرورة مرض فينبغي أن لا يختلف في الاجزاء، ومن مواضع الخلاف عدد المسحات، فالجمهور على مرة واحدة ويجزئ ذلك عند الشافعي وثلاثاً أحب إليه وروي عن ابن سيرين أنه مسح رأسه مرتين، وروي عن أنس أنه قال يمسح الرأس ثلاثاً، وقاله سعيد بن جبير وعطاء وميسرة، والباء في قوله ‏{‏برؤوسكم‏}‏ مؤكدة زائدة عند من يرى عموم الرأس، والمعنى عنده وامسحوا رؤوسكم، وهي للإلزاق المحض عند من يرى إجزاء بعض الرأس كان المعنى أوجدوا مسحاً برؤوسكم فمن مسح شعرة فقد فعل ذلك، ثم اتبعوا في المقادير التي حدوها آثاراً وأقيسة بحسب اجتهاد العلماء رحمهم الله‏.‏

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة «وأرجلِكم» خفضاً وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأرجلكم نصباً، وروى أبو بكر عن عاصم الخفض، وروى عنه حفص النصب، وقرأ الحسن والأعمش «وأرجلُكم» بالرفع المعنى فاغسلوها، ورويت عن نافع، وبحسب هذا اختلاف الصحابة والتابعين، فكل من قرأ بالنصب جعل العامل اغسلوا وبنى على أن الفرض في الرجلين الغسل بالماء دون المسح، وهنا هو الجمهور وعليه علم فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو اللازم من قوله صلى الله عليه وسلم وقد رأى قوماً يتوضؤون وأعقابهم تلوح فنادى بأعلى صوته، «ويل للأعقاب من النار»، ومن قرأ بالخفض جعل العامل أقرب العاملين، واختلفوا، فقالت فرقة منهم، الفرض في الرجلين المسح لا الغسل وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ الوضوء غسلتان ومسحتان، وروي أن الحجاج خطب بالأهواز فذكر الوضوء فقال‏:‏ اغسلوا وجوهكم وأيديكم وأمسحوا برؤوسكم وأرجلكم وأنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه «فاغسلوا» بطونهما وظهورهما وعراقيبهما فسمع ذلك أنس بن مالك فقال صدق الله وكذب الحجاج قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم‏}‏ قال وكان أنس إذا مسح رجليه بلهما وروي أيضاً عن أنس أنه قال‏:‏ نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل وكان عكرمة يمسح على رجليه وليس في الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح‏.‏

وقال الشعبي‏:‏ نزل جبريل بالمسح ثم قال‏:‏ ألا ترى أن التيمم يمسح فيه ما كان غسلاً ويلغى ما كان مسحاً وروي عن أبي جعفر أنه قال‏:‏ امسح على رأسك وقدميك، وقال قتادة‏:‏ افترض الله غسلتين ومسحتين، وكل من ذكرنا فقراءته «وأرجلِكم» بكسر اللام، وبذلك قرأ علقمة والأعمش والضحاك وغيرهم، وذكرهم الطبري تحت ترجمة القول بالمسح، وذهب قوم ممن يقر بكسر اللام إلى أن المسح في «الرجلين» هو الغسل، وروي عن أبي زيد أن العرب تسمى الغسل الخفيف مسحاً ويقولون تمسحت للصلاة بمعنى غسلت أعضائي، وقال أبو عبيدة وغيره في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فطفق مسحاً‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 33‏]‏ أنه الضرب، ويقال‏:‏ مسح علاوته إذا ضربه، قال أبو علي‏:‏ فهذا يقوي أن المراد بمسح الرجلين الغسل، ومن الدليل على أن مسح الرجلين يراد به الغسل أن الحد قد وقع فيهما ب ‏{‏إلى‏}‏ كما وقع في الأيدي وهي مغسولة ولم يقع في الممسوح حد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويعترض هذا التأويل بترك الحد في الوجه فكان الوضوء مغسولين حد أحدهما وممسوحين حد أحدهما، وقال الطبري رحمه الله إن مسح الرجلين هو بإيصال الماء إليهما ثم يمسح بيديه بعد ذلك فيكون المرء غاسلاً ماسحاً، قال‏:‏ ولذلك كره أكثر العلماء للمتوضئ أن يدخل رجليه في الماء دون أن يمر يديه‏.‏

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ وقد جوز ذلك قوم منهم الحسن البصري وبعض فقهاء الأمصار‏.‏ وجمهور الأمة من الصحابة والتابعين على أن الفرض في الرجلين الغسل وأن المسح لا يجزئ‏.‏ وروي ذلك عن الضحاك وهو يقرأ بضم اللام، والكلام في قوله ‏{‏إلى الكعبين‏}‏ كما تقدم في قوله ‏{‏إلى المرافق‏}‏ واختلف اللغويون في ‏{‏الكعبين‏}‏ فالجمهور على أنهما العظمان الناتئان في جنبي الرجل‏.‏ وهذان هما حد الوضوء بإجماع فيما علمت، واختلف هل يدخلان في الغسل أم لا كما تقدم في المرفق‏.‏ وقال قوم الكعب هو العظم الناتئ في وجه القدم حيث يجتمع شراك النعل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولا أعلم أحداً جعل حد الوضوء إلى هذا ولكن عبد الوهاب في التلقين جاء في ذلك بلفظ فيه تخليط وإبهام‏.‏

قال الشافعي رحمه الله لم أعلم مخالفاً في أن ‏{‏الكعبين‏}‏ هما العظمان في مجمع مفصل الساق، وروى الطبري عن يونس عن أشهب عن مالك قال‏:‏ الكعبان اللذان يجب الوضوء إليهما هما العظمان الملتصقان بالساق المحاذيان للعقب وليس الكعب بالظاهر في وجه القدم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويظهر ذلك من الآية من قوله في الأيدي ‏{‏إلى المرافق‏}‏ أي في كل يد مرفق ولو كان كذلك في الأرجل لقيل إلى الكعوب فلما كان في كل رجل كعبان خصا بالذكر، وألفاظ الآية تقتضي الموالاة بين الأعضاء واختلف العلماء في ذلك فقال ابن أبي سلمة وابن وهب ذلك من فروض الوضوء في الذكر والنسيان، وقال ابن عبد الحكم ليس بفرض مع الذكر، وقال مالك هو فرض مع الذكر ساقط مع النسيان، وكذلك تتضمن ألفاظ الآية الترتيب واختلف فيه فقال الأبهري الترتيب سنة، وظاهر المذهب أن التنكيس للناس مجزئ، واختلف في العامد فقيل‏:‏ يجزئ ويرتب في المستقبل، وقال أبو بكر القاضي وغيره‏:‏ لا يجزئ لأنه عابث‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كنتم جنباً‏}‏ الجنب مأخوذ من جنب امرأة في الأغلب، ومن المجاورة والقرب قيل ‏{‏والجار الجنب‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 36‏]‏ ويحتمل الجنب أن يكون من البعد إذ البعد جنابة ومنه تجنبت الشيء إذا بعدت عنه، فكأنه جانب الطهارة وعلى هذا يحتمل أن يكون ‏{‏الجار الجنب‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 36‏]‏ هو البعيد الجوار ويكون مقابلاً للصاحب بالجنب و«اطهروا» أمر بالاغتسال بالماء، ولذلك رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن مسعود وغيرهما أن الجنب لا يتيمم البتة بل يدع الصلاة حتى يجد الماء، وقال جمهورالناس‏:‏ بل هذه العبارة هي لواجد الماء، وقد ذكر الجنب أيضاً بعد في أحكام عادم الماء بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لامستم النساء‏}‏ إذ الملامسة هنا الجماع، والطهور بالماء صفته أن يعم الجسد بالماء وتمر اليد مع ذلك عليه، هذا ينغمس الرجل في الماء دون تدلك، وقد تقدم في سورة النساء تفسير قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإن كنتم مرضى‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه‏}‏ وقراءة من قرأ «من الغيظ»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج‏}‏ الإرادة صفة ذات وجاء الفعل مستقبلاً مراعاة للحوادث التي تظهر عن الإرادة فإنها تجيء مؤتنفة من تطهير المؤمنين وإتمام النعم عليهم، وتعدية أراد وما تصرف منه بهذه اللام عرف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر‏:‏

أريد لأنسى ذكرها فكأنما *** تمثل لي ليلى بكل سبيل

قال سيبويه وسألته رحمه الله عن هذا فقال، المعنى إرادتي لأنسى، ومن ذلك قوم قيس بن سعد‏:‏

أردت لكيما يعلم الناس أنها *** سراويل قيس والوفود شهود

ويحتمل أن يكون في الكلام مفعول محذوف تتعلق به اللام وما قال الخليل لسيبويه أخصر وأحسن، ويعترض هذا الاحتمال في المفعول المحذوف بأن من تصير زائدة في الواجب وينفصل بأن قوة النفي الذي في صدر الكلام يشفع لزيادة من وإن لم يكن النفي واقعاً على الفعل الواقع على الحرج، ولهذا نظائر، والحرج الضيق، والحرجة الشجر الملتف المتضايق، ومنه قيل يوم بدر في أبي جهل إنه كان في مثل الحرج من الرماح ويجري مع معنى هذه الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم

«دين الله يسر» وقوله «بعثت بالحنفية السمحة» وجاء لفظ الآية على العموم والشيء المذكور بقرب هو أمر التيمم والرخصة فيه وزوال الحرج في تحمل الماء أبداً ولذلك قال أسيد‏:‏ ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن يريد ليطهركم‏}‏ الآية، إعلام بما لا يوازى بشكر من عظيم تفضله تبارك وتعالى، و‏{‏لعلكم‏}‏‏:‏ ترجّ في حق البشر، وقرأ سعيد بن المسيب «يطْهركم» بسكون الطاء وتخفيف الهاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏7‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

الخطاب بقوله‏:‏ ‏{‏واذكروا‏}‏ إلى آخر الآية هو للمؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم و‏{‏نعمة الله‏}‏ اسم جنس يجمع الإسلام وجمع الكلمة وعزة الحياة وغنى المال وحسن المآل، هذه كلها نعم هذه الملة، والميثاق المذكور هو ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم في بيعات العقبة وبيعة الرضوان وكل موطن قال الناس فيه سمعنا وأطعنا هذا قول ابن عباس والسدي وجماعة من المفسرين‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الميثاق المذكور هو المأخوذ على النسم حين استخرجوا من ظهر آدم، والقول الأول أرجح وأليق بنمط الكلام‏.‏

ثم أمر تعالى المؤمنين بالقيام دأباً متكرراً بالقسط وهو العدل، وقد تقدم نظير هذا في سورة النساء وتقدم في صدر هذه السورة نظير قوله‏:‏ ‏{‏ولا يجرمنكم شنآن قوم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏ وباقي الآية بيّن متكرر والله المعين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏

‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏9‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏10‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

هذه آية وعد للمؤمنين بستر الذنوب عليهم وبالجنة فهي الأجر العظيم، و‏{‏وعد‏}‏ يتعدى إلى مفعولين، ويجوز الاقتصار على أحدهما، وكذلك هو في هذه الآية، فالمفعول الثاني مقدر يفسره ويدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لهم مغفرة‏}‏ ثم عقب تعالى بذكر حال الكفار ليبين الفرق‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته، والنعمة هي العاملة في إذ وهي نعمة مخصوصة، وهم الرجل بالشيء إذا أراد فعله، ومنه قول الشاعر‏:‏

هل ينفعنك اليوم أن همت بهم *** كثرة ما توصي وتعقاد الرتم

ومنه قول الآخر‏:‏

هممت ولم أفعل وكدت وليتني *** تركت على عثمان تبكي حلائله

واختلف الناس في سبب هذه الآية وما النازلة التي وقع فيها الهم ببسط اليد والكف من الله تعالى‏؟‏ فقال الجمهور‏:‏ إن سبب هذه الآية أنه لما قتل أهل بئر معونة نجا من القوم عمرو بن أمية الضميري ورجل آخر معه، فلقيا بقرب المدينة رجلين من سليم قد كانا أخذا عهداً من النبي صلى الله عليه وسلم وانصرفا، فسألهما عمرو مممن أنتما‏؟‏ فانتسبا إلى بني عامر بن الطفيل وهو كان الجاني على المسلمين في بئر معونة، فقتلهما عمرو وصاحبه وأتيا بسلبهما النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لقد قتلتما قتيلين لأدينهما ثم شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمع الدية فذهب يوماً إلى بني النضير يستعينهم في الدية ومعه أبو بكر وعمر وعلي‏.‏ فكلمهم فقالوا‏:‏ نعم يا أبا القاسم انزل حتى نصنع لك طعاماً وننظر في معونتك، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل جدار فتآمروا بينهم في قتله، وقالوا ما ظفرتم بمحمد قط أقرب مراماً منه اليوم، فقال بعضهم لبعض من رجل يظهر على الحائط فيصب عليه حجراً يشدخه‏؟‏ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش فيما روي، وجاء جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقام رسول الله من المكان وتوجه إلى المدينة ونزلت الآية في ذلك، وفي الخبر زوائد لا تخص الآية وقد ذكره ابن إسحاق وغيره، وهذا القول يترجح بما يأتي بعد من الآيات في وصف غدر بني إسرائيل ونقضهم المواثيق، وقالت جماعة من العلماء‏:‏ سبب الآية فعل الأعرابي في غزوة ذات الرقاع، وهي غزوة النبي صلى الله عليه وسلم بني محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان، وذلك أنه نزل بوادٍ كثير العضاه، فتفرق الناس في الظلال وتركت للنبي صلى الله عليه وسلم شجرة ظليلة، فعلق سيفه بها ونام فجاء رجل من محارب فاخترط السيف فانتبه النبي صلى الله عليه وسلم والسيف صلت في يده، فقال للنبي صلى الله لعيه وسلم أتخافني‏؟‏ فقال لا، فقال له ومن يمنعك مني، فقال‏:‏ الله، فشام السيف في غمده وجلس، وفي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس فاجتمعوا وهو جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبه، وذكر الواقدي وابن أبي حاتم عن أبيه أنه أسلم، وذكر قوم أنه ضرب برأسه في ساق الشجرة حتى مات فنزلت الآية بسبب ذلك، وفي البخاري في غزوة ذات الرقاع أن اسم الرجل غورث بن الحارث بالغين منقوطة، وحكى بعض الناس أن اسمه دعثور بن الحارث وحكى الطبري أن الآية نزلت بسبب قوم من اليهود أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم في طعام، فأشعره الله بذلك، ثم أدخل الطبري تحت هذه الترجمة عن ابن عباس خلاف ما ترجم به من أن قوماً من اليهود صنعوا للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه طعاماً ليقتلوه إذا أتى الطعام‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فيشبه أن ابن عباس إنما وصف قصة بني النضير المتقدمة، وقال قتادة‏:‏ سبب الآية ما همت به محارب وبنو ثعلبة يوم ذات الرقاع من الحمل على المسلمين في صلاة العصر، فأشعره الله تعالى بذلك ونزلت صلاة الخوف، فذلك كف أيديهم عن المسلمين، وحكى ابن فورك عن الحسن بن أبي الحسن أن الآية نزلت بسبب أن قريشاً بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً ليغتاله ويقتله‏.‏ فأطلعه الله تعالى على ذلك وكفاه شره‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والمحفوظ في هذا هو نهوض عمير بن وهب لهذا المعنى بعد اتفاقه على ذلك مع صفوان بن أمية والحديث بكماله في سيرة ابن هشام، وذكر قوم من المفسرين وأشار إليه الزجاج أن الآية نزلت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اليوم يئس الذين كفروا من دينكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ فكأنه تعالى عدد على المؤمنين نعمه في أن أظهرهم وكف بذلك أيدي الكفار عنهم التي كانوا هموا ببسطها إلى المؤمنين‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحسن على هذا القول أن تكون الآية نزلت عقب غزوة الخندق وحين هزم الله الأحزاب وكفى الله المؤمنين القتال، وباقي الآية أمر بالتقوى والتوكل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏12‏)‏‏}‏

هذه الآيات المتضمنة الخبر عن نقضهم مواثيق الله تعالى تقوي أن الآية المتقدمة في كف الأيدي إنما كانت في أمر بني النضير، واختلف المفسرون في كيفية بعثة هؤلاء النقباء بعد الإجماع على أن النقيب كبير القوم القائم بأمورهم الذي ينقب عنها وعن مصالحهم فيها، والنقاب الرجل العظيم الذي هو في الناس كلهم على هذه الطريقة ومنه قيل في عمر‏:‏ إنه كان لنقاباً، فالنقباء قوم كبار من كل سبط تكفل كل واحد بسبطه بأن يؤمنوا ويتقوا الله تعالى‏.‏

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه‏:‏ ونحو هذا كان النقباء ليلة بيعة العقبة مع محمد صلى الله عليه وسلم، وهي العقبة الثالثة بايع فيه سبعون رجلاَ وامرأتان فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم إسرائيل أمناء على الاطلاع الجبارين والسبر لقوتهم ومنعتهم فساروا حتى لقيهم رجل من الجبارين فأخذهم جميعاً فجعلهم في حجزته‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ في قصص طويل ضعيف مقتضاه أنهم اطلعوا من الجبارين على قوة عظيمة وظنوا أنهم لا قبل لهم بهم فتعاقدوا بينهم على أن يخفوا ذلك عن بني إسرائيل وأن يعلموا به موسى عليه السلام ليرى فيه أمر ربه فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل خان منهم عشرة فعرفوا قراباتهم ومن وثقوه على سرهم ففشا الخبر حتى اعوج أمر بني إسرائيل وقالوا اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون، وأسند الطبري عن ابن عباس قال‏:‏ النقباء من بني إسرائيل بعثهم موسى لينظروا إلى مدينة الجبارين فذهبوا ونظروا فجاءوا بحبة من فاكهتهم وقر رجل فقالوا‏:‏ اقدروا قدر قوم هذه فاكهتهم فكان ذلك سبب فتنة بني إسرائل ونكولهم، وذكر النقاش أن معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً‏}‏ أي ملكاً وأن الآية تعديد نعمة الله عليهم في أن بعث لإصلاحهم هذا العدد من الملوك قال فما وفى منهم إلا خمسة داود عليه السلام وابنه سليمان وطالوت وحزقيا وابنه وكفر السبعة وبدلوا وقتلوا الأنبياء وخرج خلال الاثني عشر اثنان وثلاثون جباراً كلهم يأخذ الملك بالسيف ويعيث فيهم والضمير في ‏{‏معكم‏}‏ لبني إسرائيل جميعاً ولهم كانت هذه المقالة وقال الربيع‏:‏ بل الضمير للاثني عشر ولهم كانت هذه المقالة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والقول الأول أرجح و‏{‏معكم‏}‏ معناه بنصري وحياطتي وتأييدي واللام في قوله ‏{‏لئن‏}‏ هي المؤذنة بمجيء لام القسم ولام القسم هي قوله ‏{‏لأكفرن‏}‏ والدليل على أن هذه اللام إنما هي مؤذنة أنها قد يستغنى عنها أحياناً ويتم الكلام دونها ولو كانت لام القسم لن يترتب ذلك، وإقامة الصلاة توفية شروطها و‏{‏الزكاة‏}‏ هنا شيء من المال كان مفروضاً فيما قال بعض المفسرين ويحتمل أن يكون المعنى وأعطيتم من أنفسكم كل ما فيه زكاة لكم حسبما ندبتم إليه وقدم هذه على الإيمان تشريفاً للصلاة والزكاة وإذ قد علم وتقرر أنه لا ينفع عمل إلا بإيمان، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «برسْلي» ساكنة السين في كل القرآن‏.‏

‏{‏وعزرتموهم‏}‏ معناه وقرتموهم وعظمتموهم ونصرتموهم ومنه قول الشاعر‏:‏

وكم من ماجد لهم كريم *** ومن ليث يعزر في الندى

وقرأ عاصم الجحدري «وعَزرتموهم» خفيفة الزاي حيث وقع وقرأ في سورة الفتح «وتَعزوه» بفتح التاء وسكون العين وضم الزاي، وقد تقدم في سورة البقرة تفسير الإقراض، وتكفير السيئات تغطيتها بالمحو والإذهاب فهي استعارة و‏{‏سواء السبيل‏}‏ وسطه ومنه ‏{‏سواء الجحيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 55‏]‏ ومنه قول الأعرابي قد انقطع سوائي، وأوساط الطرق هي المعظم اللاحب منها، وسائر ما في الآية بيّن والله المستعان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

يحتمل أن تكون «ما» زائدة والتقدير «فبنقضهم» ويحتمل أن تكون اسماً نكرة أبدل منه النقض على بدل المعرفة من النكرة التقدير فبفعل هو نقضهم للميثاق وهذا هو المعنى في هذا التأويل، وقد تقدم في النساء نظير هذا و‏{‏لعناهم‏}‏ معناه بعدناهم من الخير أجمعه وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «قاسية» بالألف وقرأ حمزة والكسائي «قسية» دون ألف وزنها فعيلة فحجة الأولى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فويل للقاسية قلوبهم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ثم قست قلوبكم من بعد ذلك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 74‏]‏ والقسوة غلظ القلب ونبوه عن الرقة والموعظة وصلابته حتى لا ينفعل لخير ومن قرأ قسيه فهو من هذا المعنى فعيلة بمعنى فاعلة كشاهد وشهيد وغير ذلك من الأمثلة، وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا «قسية» ليست من معنى القسوة وإنما هي كالقسي من الدراهم وهي التي خالطها غش وتدليس فكذا القلوب لم تصف للإيمان بل خالطها الكفر والفساد ومن ذلك قول أبي زبيد‏:‏

لها صواهل في صم السلام كما *** صاح القسيات في أيدي الصياريف

ومنه قول الآخر‏:‏

فما زوداني غير سحق عمامة *** وخمس مئي منها قسي وزائف

قال أبو علي‏:‏ هذه اللفظة معربة وليست بأصل في كلام العرب، واختلف العلماء في معنى قوله‏:‏ ‏{‏يحرفون الكلم‏}‏ فقال قوم منهم ابن عباس، تحريفهم هو بالتأويل ولا قدرة لهم على تبديل الألفاظ في التوراة ولا يتمكن لهم ذلك ويدل على ذلك بقاء آية الرجم واحتياجهم إلى أن يضع القارئ يده عليها، وقالت فرقة‏:‏ بل حرفوا الكلام وبدلوه أيضاً وفعلوا الأمرين جميعاً بحسب ما أمكنهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وألفاظ القرآن تحتمل المعنيين فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 79‏]‏ يقتضي التبديل‏.‏ ولا شك أنهم فعلوا الأمرين‏.‏ وقرأ جمهور الناس «الكَلِم» بفتح الكاف وكسر اللام وقرأ أبو عبد الرحمن وإبراهيم النخعي «الكلام» بالألف وقرأ أبو رجاء‏.‏ «الكِلْم» بكسر الكاف وسكون اللام، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونسوا حظاً مما ذكروا به‏}‏ نص على سوء فعلهم بأنفسهم أي قد كان لهم حظ عظيم فيما ذكروا به فنسوه وتركوه، ثم أخبر تعالى نبيه عليه السلام أنه لا يزال في مؤتنف الزمان يطلع ‏{‏على خائنة منهم‏}‏ وغائلة وأمور فاسدة، واختلف الناس في معنى ‏{‏خائنة‏}‏ في هذا الموضع فقالت فرقة ‏{‏خائنة‏}‏ مصدر كالعاقبة وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأهلكوا بالطاغية‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 5‏]‏ فالمعنى على خيانة، وقال آخرون معناه على فرقة خائنة فهي اسم فاعل صفة المؤنث، وقال آخرون المعنى على خائن فزيدت الهاء للمبالغة كعلامة ونسابة ومنه قول الشاعر‏:‏

حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن *** للغدر خائنة مغل الاصبع

وقرأ الأعمش‏:‏ «على خيانة منهم» ثم استثنى تبارك وتعالى منهم القليل فيحتمل أن يكون الاستثناء في الأشخاص، ويحتمل أن يكون في الأفعال، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعف عنهم واصفح‏}‏ منسوخ بما في براءة من الأمر بقتالهم حتى يؤدوا الجزية وباقي الآية وعد على الإحسان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 17‏]‏

‏{‏وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏14‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏16‏)‏ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏من‏}‏ متعلقة ‏{‏بأخذنا‏}‏ التقدير‏:‏ وأخذنا من الذين قالوا إنّا نصارى ميثاقهم، ويحتمل أن يكون قوله ‏{‏ومن‏}‏ معطوف على قوله ‏{‏خائنة منهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 13‏]‏، ويكون قوله ‏{‏أخذنا ميثاقهم‏}‏ ابتداء خبر عنهم، والأول أرجح‏.‏ وعلق كونهم نصارى بقولهم ودعواهم، من حيث هو اسم شرعي يقتضي نصر دين الله، وسموا به أنفسهم دون استحقاق ولا مشابهة بين فعلهم وقولهم، فجاءت هذه العبارة موبخة لهم مزحزحة عن طريق نصر دين الله وأنبيائه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأغرينا بينهم‏}‏ معناه أثبتناها بينهم وألصقناها، والإغراء مأخوذ من الغراء الذي يلصق به، والضمير في ‏{‏بينهم‏}‏ يحتمل أن يعود على اليهود والنصارى لأن العداوة بينهم، موجودة مستمرة، ويحتمل أن يعود على النصارى فقط لأنها أمة متقاتلة بينها الفتن إلى يوم القيامة، ثم توعدهم الله تعالى بعقاب الآخرة إذ أنباؤهم بصنعهم إنما هو تقرير وتوبيخ للعذاب، إذ صنعهم كفر يوجب الخلود في النار‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب‏}‏ لفظ يعم اليهود والنصارى ولكن نوازل الإخفاء كالرحم وغيره إنما حفظت لليهود، لأنهم كانوا مجاوري رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهاجره، وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ أول ما نزل من هذه السورة هاتان الآيتان في شأن اليهود والنصارى، ثم نزل سائر السورة بعرفة في حجة الوداع وقوله‏:‏ ‏{‏رسولنا‏}‏ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، وفي الآية الدالة على صحة نبوته‏.‏ لأن إعلامه بخفيّ ما في كتبهم وهو أمي لا يقرأ ولا يصحب القرأة دليل على أن ذلك إنما يأتيه من عند الله تبارك وتعالى، وأشهر النوازل التي أخفوها فأظهرها الله على لسان نبيه أمر الرجم، وحديثه مشهور‏.‏ ومن ذلك صفات محمد صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك‏.‏ و‏{‏من الكتاب‏}‏ يعني من التوراة وقوله‏:‏ ‏{‏ويعفو عن كثير‏}‏ معناه ويترك كثيراً لا يفضحكم فيه إبقاء عليكم‏.‏ وهذا المتروك هو في معنى افتخارهم ووصفهم أيام الله قبلهم ونحو ذلك مما لا يتعين في ملة الإسلام فضحهم فيه وتكذيبهم، والفاعل في ‏{‏يعفو‏}‏ هو محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يستند الفعل إلى الله تعالى وإذا كان العفو من النبي عليه السلام فبأمر ربه، وإن كان من الله تعالى فعلى لسان نبيه عليه السلام، والاحتمالان قريب بعضهما من بعض‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏نور وكتاب مبين‏}‏ يحتمل أن يريد محمداً صلى الله عليه وسلم والقرآن، وهذا هو ظاهر الألفاظ، ويحتمل أن يريد موسى عليه السلام والتوراة، أي ولو اتبعتموها حق الاتباع لآمنتم بمحمد، إذ هي آمرة بذلك مبشرة به، وقرأ عبيد بن عمير والزهري وسلام وحميد ومسلم بن جندب «بهُ اللهُ» بضم الهاء حيث وقع مثله، و‏{‏اتبع رضوانه‏}‏ معناه بالتكسب والنية والإقبال عليه، والسبل الطرق، والقراءة في «رُضوان» بضم الراء وبكسرها وهما لغتان، وقد تقدم ذكر ذلك وقرأ ابن شهاب والحسن بن أبي الحسن «سبْل» ساكنة الباء‏.‏

و ‏{‏السلام‏}‏ في هذه الآية يحتمل أن يكون اسماً من أسماء الله تعالى، فالمعنى طرق الله تعالى التي أمر بها عباده وشرعها لهم، ويحتمل أن يكون مصدراً كالسلامة فالمعنى طرق النجاة والسلامة من النار، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويخرجهم‏}‏ يعني المتبعين الرضوان، فالضمير على معنى من لا على لفظها، و‏{‏الظلمات‏}‏ الكفر، و‏{‏النور‏}‏ الإيمان، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بإذنه‏}‏ أي يمكنهم من أقوال الإيمان وأفعاله، ويعلم فعلهم لذلك والتزامهم إياه، فهذا هو حد الإذن، العلم بالشيء والتمكين منه، وقد تقدم شرحه في سورة البقرة والصراط المستقيم هو دين الله وتوحيده وما تركب عليه من شرعه‏.‏

ثم أخبر تعالى بكفر النصارى القائلين بأن الله هو المسيح، وهذه فرقة من النصارى وكل فرقهم على اختلال أقوالهم يجعل للمسيح عليه السلام حظاً من الألوهية، وقد تقدم القول في لفظ ‏{‏المسيح‏}‏ في سورة آل عمران، ثم رد عليهم تعالى قوله لنبيه‏:‏ ‏{‏قل فمن يملك من الله شيئاً‏}‏ أي لا مالك ولا رادَّ لإرادة الله تعالى في المسيح ولا في غيره فهذا مما تقضي العقول معه أن من تنفذ الإرادة فيه ليس بإله، ثم قرر تعالى ملكه في السموات والأرض وما بينهما فحصل المسيح عليه السلام أقل أجزاء ملك الله تعالى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخلق ما يشاء‏}‏ إشارة إلى خلقه المسيح في رحمن مريم من غير والد‏.‏ بل اختراعاً كآدم عليه السلام، وقد تقدم في آل عمران الفرق بين قوله تعالى في قصة زكرياء ‏{‏يفعل ما يشاء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 40‏]‏ وفي قصة مريم ‏{‏يخلق ما يشاء‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله على كل شيء قدير‏}‏ عموم معناه الخصوص في ما عدا الذات والصفات والمحالات، والشيء في اللغة هو الموجود‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏18‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏19‏)‏‏}‏

في الكلام لف وإيجاز يحال المستمع على تفريقه بذهنه وذلك أن ظاهر اللفظ يقتضي أن جميع ‏{‏اليهود والنصارى‏}‏ يقولون عن جميعهم‏:‏ ‏{‏نحن أبناء والله وأحباؤه‏}‏ وليس الأمر كذلك بل كل فرقة تقول خاصة ‏{‏نحن أبناء الله وأحباؤه‏}‏ والبنوة في قولهم هذا بنوة الحنان والرأفة، وذكروا أن الله تعالى أوحى إلى إسرائيل أن أول أولادك بكري فضلوا بذلك وقالوا ‏{‏نحن أبناء الله وأحباؤه‏}‏ ولو صح ما رووا لكان معناه بكراً في التشريف أو النبوة ونحوه، وأحباء جمع حبيب، وكانت هذه المقالة منهم عندما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان به وخوفهم العذاب، فقالوا نحن لا نخاف ما تقول لأننا ‏{‏أبناء الله وأحباؤه‏}‏ وذكر ذلك ابن عباس، وقد كانوا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم في غير ما موطن نحن ندخل النار فنقيم بها أربعين يوماً ثم تخلفوننا فيها، فرد الله عليهم بقولهم فقال لمحمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قل فلم يعذبكم بذنوبكم‏}‏ أي لو كانت منزلتكم فوق منازل البشر لما عذبكم وأنتم قد أقررتم أنه يعذبكم‏.‏

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ وهذا على أن التعذيب هو بنار الآخرة، وقد تحتمل الآية أن يكون المراد ما كان الله تعالى «يعذبهم» به في الدنيا‏.‏ وذلك أن بني إسرائيل كانوا إذا أصاب الرجل منهم خطيئة أصبح مكتوباً على بابه ذكر ذنبه وذكر عقوبته فينفذ ذلك عليه فهذا تعذيب في الدنيا على الذنوب ينافي أنهم أبناء وأحباء‏.‏ ثم ترك الكلام الأول وأضرب عنه غيره مفسد له ودخل في غيره من تقرير كونهم بشراً كسائر الناس، والخلق أكرمهم أتقاهم، يهدي من يشاء للإيمان فيغفر له ويورط من يشاء في الكفر فيعذبه، وله ملك السماوات الأرض وما بينهما، فله بحق الملك أن يفعل ما شاء لا معقب لحكمه وإليه مصير العالم بالحشر والمعاد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب‏}‏ خطاب لليهود والنصارى، والرسول في قوله‏:‏ ‏{‏رسولنا‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله‏:‏ ‏{‏على فترة من الرسل‏}‏، أي على انقطاع من مجيئهم مدى ما، والفترة سكون بعد حركة في جرم، ويستعار ذلك في المعاني، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «لكل عمل شدة، ولكل شدة فترة»، وقال الشاعر‏:‏

وإني لتعروني لذكراك فترة *** معناه سكون بعد اضطراب، واختلف الناس في قدرة الفترة التي كات بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما فقال قتادة خمسمائة عام وستون عاماً‏.‏ وقال الضحاك أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة وفي الصحيح أن الفترة بينهما ستمائة سنة‏.‏ وهذه الآية نزلت بسبب قول اليهود‏.‏ ما أنزل الله على بشر بعد موسى من شيء، قاله ابن عباس، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن تقولوا‏}‏ مفعول من أجله، المعنى حذار أن تقولوا محتجين يوم القيامة‏:‏ ‏{‏ما جاءنا من بشير ولا نذير‏}‏ فقد جاءكم وقامت الحجة عليكم، ‏{‏والله على كل شيء قدير‏}‏ فهو الهادي والمضل والمنعم والمعذب لا رب غيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 22‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏20‏)‏ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ‏(‏21‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

المعنى واذكر لهم يا محمد على جهة إعلامهم بغير كتبهم ليحققوا نبوتك وينتظم في ذلك نعم الله عليهم وتلقيهم تلك النعم بالكفر وقلة الطاعة والإنابة‏.‏ وقرأ ابن محيصن «يا قومُ» بالرفع وكذلك حيث وقع من القرآن‏.‏ وروي ذلك عن ابن كثير‏.‏ و‏{‏نعمة الله‏}‏ هنا اسم الجنس، ثم عدد عيون تلك النعم، والأنبياء الذين جعل فيهم أمرهم مشهور من لدن إسرائيل إلى زمان عسى عليه السلام والأنبياء حاطة ومنقذون من النار وشرف في الدنيا والآخرة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وجعلكم ملوكاً‏}‏ يحتمل معاني أحدها أن يعدد عليهم ملك من ملك من بني إسرائيل لأن الملوك شرف في الدنيا وحاطة من نوائبها، والمعنى الآخر‏:‏ أن يريد استنفذكم من القبط الذين كانوا يستخدمونكم فصرتم أحراراً تملكون ولا تملكون، فهم ملوك بهذا الوجه وبنحو هذا فسر السدي وغيره‏.‏ وقال قتادة إنما قال‏:‏ ‏{‏وجعلكم ملوكاً‏}‏ لأنا كنا نتحدث أنهم أول من خدمة أحد من بني آدم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف لأن القبط كانوا يستخدمون بني إسرائيل‏.‏ وظاهر أمر بني آدم أي بعضهم كان يسخر بعضاً مذ تناسلوا وكثروا، وإنما تختلفت الأمم في معنى التملك فقط، وقال عبد الله ابن عمرو بن العاصي والحسن بن أبي الحسن وجماعة من أهل العلم من كان له مسكن وأمرأة وخادم فهو ملك، وقيل من له مسكن لا يدخل عليه فيه إلا بإذن فهو ملك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين‏}‏ قال فيه أبو مالك وسعيد بن جبير‏:‏ الخطاب هو من موسى عليه السلام لقومه، ثم اختلف المفسرون ماذا الذي أوتوا ولم يؤت أحد مثله‏؟‏ فقال مجاهد، المن والسلوى والحجر والغمام، وقال غيره‏:‏ كثرة الأنبياء‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وعلى هذا في كثرة الأنبياء فالعالمون على العموم والإطلاق، وعلى القول بأن الموتى هو آيات موسى فالعالمون مقيدون بالزمان الذي كانوا فيه، لأن أمة محمد قد أوتيت من آيات محمد عليه السلام أكثر من ذلك، قد ظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغمامة قبل مبعثه، وكلمته الحجارة والبهائم، وأقبلت إليه الشجرة وحن الجذع، ونبع الماء من بين أصابعه وشبع كثير من الناس من قليل الطعام ببركته، وانشق له القمر، وعاد العود سيفاً، ورجع الحجر المعترض في الخندق رملاً مهيلاً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا المقالة من موسى توطئة لنفوسهم حتى يتعزز ويأخذ الأمر بدخول أرض الجبارين بقوة، وتنفذ في ذلك نفوذ من أعزه الله ورفع شأنه، و‏{‏المقدسة‏}‏ معناه المطهرة، وقال مجاهد‏:‏ المباركة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والبركة تطهير من القحوط والجوع ونحوه‏.‏ واختلف الناس في تعيينها، فقال ابن عباس ومجاهد هي الطور وما حوله، وقال قتادة‏:‏ هي الشام، وقال ابن زيد‏:‏ هي أريحاء وقاله السدي وابن عباس أيضاً، وقال قوم‏:‏ هي الغوطة وفلسطين وبعض الأردن، قال الطبري‏:‏ ولا يختلف أنها بين الفرات وعريش مصر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وتظاهرت الروايات أن دمشق هي قاعدة الجبارين، وقوله ‏{‏التي كتب الله لكم‏}‏ معناه التي «كتب الله» في قضائه وقدره أنها لكم ترثونها وتسكنونها مالكين لها، ولكن فتنتكم في دخلولها بفرض قتال من فيها عليكم تمحيصاً وتجربة، ثم حذرهم موسى عليه السلام الارتداد على الأدبار، وذلك الرجوع القهقرى، ويحتمل أن يكون تولية الدبر والرجوع في الطريق الذي جيء منه، والخاسر‏:‏ الذي قد نقص حظه‏.‏

ثم ذكر عز وجل عن بني إسرائيل أنهم تعنتوا ونكصوا فقالوا ‏{‏إن فيها قوماً جبارين‏}‏‏.‏ والجبار فعال من الجبر كأنه لقوته وغشمه وبطشه يجبر الناس على إرادته، والنخلة الجبارة العالية التي لا تنال بيد، وكان من خبر الجبارين أنهم كانوا أهل قوة فلما بعث «موسى» الأثني عشر نقيباً مطلعين على أمر الجبارين وأحوالهم رأوا لهم قوة وبطشاً وتخيلوا أن لا طاقة لهم بهم فجاؤوا بني إسرائيل ونقضوا العهد في أن أخبروهم بحال ‏{‏الجبارين‏}‏ حسبما قدمناه في ذكر بعث النقباء، ولم يف منهم إلا يوشع بن نوف وكالب بن يوفنا، ثم إن بني إسرائيل كعوا وجبنوا وقالوا‏:‏ كوننا عبيداً للقبط أسهل من قتال هؤلاء، وهم كثير منهم أن يقدموا رجلاً على أنفسهم ويصير بهم إلى أرض مصر مرتدين على الأعقاب، ونسوا أن الله تعالى إذا أيد الضعيف غلب القوي وأخبروا «موسى» أنهم لن يدخلوا الأرض ما دام الجبارون فيها، وطلبوا منه أن يخرج الله الجبارين بجند من عنده وحينئذ يدخل بنو إسرائيل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 26‏]‏

‏{‏قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏23‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ‏(‏24‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏25‏)‏ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قرأ ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد «يُخافون» بضم الياء، وقرأ الجمهور «يَخافون» بفتح الياء، وقال أكثر المفسرين‏:‏ الرجلان يوشع بن نوف وهو ابن أخت موسى وكالب بن يوفنا، ويقال فيه كلاب، ويقال كالوث بثاء مثلثة ويقال في اسم أبيه يوفيا، وهو صهر «موسى» على أخته، قال الطبري‏:‏ اسم زوجته مريم بنت عمران، ومعنى ‏{‏يخافون‏}‏ أي الله، وأنعم عليهما بالإيمان الصحيح وربط الجأش والثبوت في الحق، وقال قوم المعنى يخافون العدو لكن ‏{‏أنعم الله عليهما‏}‏ بالإيمان والثبوت مع خوفهما، ويقوي التأويل الأول أن في قراءة ابن مسعود‏:‏ «قال رجلان من الذين يخافون الله أنعم عليهما»‏.‏ وأما من قرأ بضم الياء فلقراءته ثلاثة معان، أحدها ما روي من أن الرجلين كانت من الجبارين آمنا بموسى واتبعاه، فكانا من القوم الذين يخافون لكن ‏{‏أنعم الله عليهما‏}‏ بالإيمان بموسى فقالا نحن أعلم بقومنا، والمعنى الثاني أنهما يوشع وكالوث لكنهما من الذين يوقرون ويسمع كلامهم ويهابون لتقواهم وفضلهم، فهم «يخافون» بهذا الوجه‏.‏ والمعنى الثالث أن يكون الفعل من أخاف والمعنى من الذين يخافون بأوامر الله ونواهيه ووعيده وزجره، فيكون ذلك مدحاً لهم على نحو المدح في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 3‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنعم الله عليهما‏}‏ صفة للرجلين، والباب هو باب مدينة الجبارين فيما ذكر المفسرون والمعنى اجتهدوا وكافحوا حتى تدخلوا الباب، وقوله‏:‏ ‏{‏فإنكم غالبون‏}‏ ظن منهما ورجاء وقياس إنكم بذلك تفتون في أعضادهم ويقع الرعب في قلوبهم فتغلبونهم، وفي قراءة ابن مسعود «عليهما ويلكم ادخلوا» وقولهما‏:‏ ‏{‏وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين‏}‏ يقتضي أنهما استرابا بإيمانهم حين رأياهم يعصون الرسول ويجبنون مع وعد الله تعالى لهم بالنصر‏.‏

ثم إن بني إسرائيل لجوا في عصيانهم وسمعوا من العشرة النقباء الجواسيس الذين خوفوهم أمر الجبارين ووصفوا لهم قوة الجبارين وعظم خلقهم فصمموا على خلاف أمر الله تعالى‏:‏ و‏{‏قالوا يا موسى إنّا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون‏}‏ وهذه عبارة تقتضي كفراً، وذهب بعض الناس إلى أن المعنى اذهب أنت وربك يعينك وأن الكلام معصية لا كفر‏.‏

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه‏:‏ وقولهم ‏{‏فقاتلا‏}‏ يقطع بهذا التأويل، وذكر النقاش عن بعض المفسرين أن المراد بالرب هنا هارون لأنه كان اسنّ من «موسى» وكان معظماً في بني إسرائيل محبباً لسعة خلقه ورحب صدره، فكأنهم قالوا اذهب انت وكبيرك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا تأويل تبعيد، وهارون إنما كان وزيراً لموسى وتابعاً له في معنى الرسالة، ولكنه تأويل يخلص بني إسرائيل من الكفر، وذكر الطبري عن قتادة أنه قال‏:‏ بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عزم على قتال قريش في عام الحديبية، جمع العسكر وكلم الناس في ذلك فقال له المقداد بن الأسود‏:‏ لسنا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هنا قاعدون» لكنا نقول‏:‏ اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون‏.‏

وذكر النقاش أن الأنصار قالت هذه المقالة للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وجميع هذا وهم، غلط قتادة رحمه الله في وقت النازلة، وغلط النقاش في قائل المقالة، والكلام إنما وقع في غزوة بدر حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذفران فكلم الناس وقال لهم‏:‏ أشيروا عليَّ أيها الناس، فقال له المقداد هذه المقالة في كلام طويل، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره، ثم تكلم من الأنصار سعد بن معاذ بنحو هذا المعنى ولكن سبقه المقداد إلى التمثيل بالآية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وتمثل المقداد بها وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم لذلك يقتضي أن الرب إنما أريد به الله تعالى، ويونس أيضاً في إيمان بني إسرائيل، لأن المقداد قد قال‏:‏ اذهب أنت وربك فقاتلا، وليس لكلامه معنى إلا أن الله تعالى يعينك ويقاتل معك ملائكته ونصره فعسى أن بني إسرائيل أرادت ذلك، أي اذهب أنت ويخرجهم الله بنصره وقدرته من المدينة وحينئذ ندخلها، لكن قبحت عبارتهم لاقتران النكول بها، وحسنت عبارة المقداد لاقتران الطاعة والإقدام بها‏.‏

ولما سمع موسى عليه السلام قولهم ورأى عصيانهم تبرأ إلى الله تعالى منهم، وقال داعياً عليهم‏:‏ ‏{‏رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي‏}‏ يعني هارون، وقوله‏:‏ ‏{‏وأخي‏}‏ يحتمل أن يكون إعرابه رفعاً إما على الابتداء والتقدير وأخي لا يملك إلا نفسه، وإما على العطف على الضمير الذي في ‏{‏أملك‏}‏ تقديره لا أملك أنا، ويحتمل أن يكون إعرابه نصباً على العطف على ‏{‏نفسي‏}‏، وذلك لأن هارون كان يطيع «موسى» فلذلك أخبر أنه يملكه، وقرأ الحسن «إلا نفسيَ وأخي» بفتح الياء فيهما، وقوله‏:‏ ‏{‏فافرق بيننا‏}‏ دعاء حرج، قال السدي، هي عجلة عجلها موسى عليه السلام، وقال ابن عباس والضحاك وغيرهما‏:‏ المعنى افصل بيننا وبينهم بحكم وافتح، فالمعنى احكم بحكم يفرق هذا الاختلاف ويلم الشعث‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وعلى هذا التأويل فليس في الدعاء عجلة، وقال قوم‏:‏ المعنى «فافرق بيننا وبينهم» في الآخرة حتى تكون منزلة المطيع مفارقة لمنزلة العاصي الفاسق، ويحتمل الدعاء أن يكون معناه‏:‏ «فرق بيننا وبينهم» بمعنى أن يقول فقدنا وجوههم «وفرق بيننا وبينهم» حتى لا نشقى بفسقهم، وبهذا الوجه تجيء العجلة في الدعاء، وقرأ عبيد بن عمير «فافرِق» بكسر الراء‏.‏

‏{‏قال فإنها محرمة‏}‏ المعنى قال الله، وأضمر الفاعل في هذه الأفعال كلها إيجازاً لدلالة معنى الكلام على المراد، وحرم الله تعالى على جميع بني إسرائيل دخول تلك المدينة ‏{‏أربعين سنة‏}‏ وتركهم خلالها ‏{‏يتيهون في الأرض‏}‏ أي في أرض تلك النازلة، وهو فحص التيه وهو على ما يحكى طول ثمانين ميلاً في عرض ستة فراسخ، وهو ما بين مصر والشام، ويروى أنه اتفق أنه مات كل من كان قال إنّا لن ندخلها أبداً، ولم يدخل المدينة أحد من ذلك الجيل إلا يوشع وكالوث، ويروى أن هارون عليه السلام مات في فحص التيه في خلال هذه المدة ولم يختلف فيها، وروي أن «موسى» عليه السلام مات فيه بعد هارون بثمانية أعوام، وقيل بستة أشهر ونصف، وأن يوشع نبيء بعد كمال «الأربعين سنة» وخرج ببني إسرائيل وقاتل الجبارين وفتح المدينة، وفي تلك الحرب وقفت له الشمس ساعة حتى استمر هزم الجبارين، وروي أن «موسى» عليه السلام عاش حتى كملت الأربعون وخرج بالناس وحارب الجبارين ويوشع وكالب على مقدمته، وأنه فتح المدينة وقتل بيده عوج بن عناق، يقال كان في طول «موسى» عشرة أذرع وفي طول عصاه عشرة أذرع، ونزل من الأرض في السماء عشرة أذرع، وحينئذ لحق كعب عوج فضربه بعصاه في كعبه فخر صريعاً، ويروى أن عوجاً اقتلع صخرة ليطرحها على عسكر بني إسرائيل فبعث الله هدهداً بحجر الماس فأداره على الصخرة فتقورت ودخلت في عنق عوج، وضربه «موسى» فمات، وحكى الطبري أن طول عوج ثمانمائة ذراع، وحكي عن ابن عباس أنه قال لما خر كان جسراً على النيل سنة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والنيل ليس في تلك الأقطار وهذا كله ضعيف والله أعلم، وحكى الزجاج عن قوم أن «موسى» وهارون لم يكونا في التيه، والعامل في ‏{‏أربعين‏}‏ يحتمل أن يكون ‏{‏محرمة‏}‏، أي حرمت عليهم ‏{‏أربعين سنة ويتيهون في الأرض‏}‏ هذه المدة ثم تفتح عليهم، أدرك ذلك من أدركه ومات قبله من مات‏.‏ وخطأ أبو إسحاق أن يكون العامل ‏{‏محرمة‏}‏، وذلك منه تحامل، ويحتمل أن يكون العامل ‏{‏يتيهون‏}‏ مضمراً يدل عليه ‏{‏يتيهون‏}‏ المتأخر، ويكون قوله إنها محرمة إخبار مستمر تلقوا منه أن الخاطبين لا يدخلونها أبداً، وأنهم مع ذلك «يتيهون في الأرض أربعين سنة» يموت فيها من مات‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ كأنه لم يعش المكلفون أشار إلى ذلك الزجاج، والتيه الذهاب في الأرض إلى غير مقصد معلوم، ويروى أن بني إسرائيل كانوا يرحلون بالليل ويسيرون ليلهم أجمع في تحليق ونحوه من التردد وقلة استقامة السير، حتى إذا أصبحوا وجدوا جملتهم في الموضع الذي كانوا فيه أول الليل، وقال مجاهد وغيره كانوا يسيرون النهار أحياناً والليل أحياناً فيمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا، وذلك في مقدار ستة فراسخ‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحتمل أن يكون تيههم بافتراق الكلمة وقلة اجتماع الرأي، وإن الله تعالى رماهم بالاختلاف وعلموا أنها قد حرمت عليهم «أربعين سنة»‏.‏ فتفرقت منازلهم في ذلك الفحص وأقاموا ينتقلون من موضع إلى موضع على غير نظام واجتماع، حتى كملت هذه المدة وأذن الله بخروجهم وهذا تيه ممكن محتمل على عرف البشر‏.‏ والآخر الذي ذكر مجاهد إنما هو خرق عادة وعجب من قدرة الله تعالى، وفي ذلك التيه ظلل عليهم الغمام ورزقوا المن والسلوى إلى غير ذلك ماما روي من ملابسهم، وقد مضى ذلك في سورة البقرة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تأس على القوم الفاسقين‏}‏ معناه فلا تحزن يقال أسي‏:‏ الرجل يأسى أسى إذا حزن ومنه قول امرئ القيس‏:‏

وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيهم *** يقولون لا تهلك أسىًّ وتجمل

ومنه قول متمم بن نويرة‏:‏

فقلت لهم إن الأسى يبعث الأسى *** دعوني فهذا كله قبر مالك

والخطاب بهذه الآية لموسى عليه السلام، قال ابن عباس ندم «موسى» على دعائه على قومه وحزن عليهم، فقال له الله‏:‏ ‏{‏فلا تأس على القوم الفاسقين‏}‏ وقال قوم من المفسرين الخطاب بهذه الألفاظ لمحمد صلى الله عليه وسلم ويراد ب ‏{‏الفاسقين‏}‏ معاصروه، أي هذه أفعال اسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك، وردهم عليك، فإنه سجية خبيثة موروثة عندهم‏.‏